القدرات العقلية..وعلاقتها الجدلية بالتحصيل العلمي
يحظى موضوع القدرة الابتكارية والتفكير العلمي والموهبة باهتمام كبير من قبل العلماء والمتخصصين في علم النفس والتربية منذ النصف الثاني من القرن الماضي،والدليل على ذلك،الزيادة المطردة في عدد البحوث والدراسات التي تنشر في مختلف بلدان العالم،مما يبرز مدى الاهتمام المتزايد بالقدرة الابتكارية من قبل الباحثين السيكولوجيين والمربين.
ويرجع هذا الاهتمام المتزايد الى التطورات الحديثة الي يشهدها علم النفس،وعلوم التربية من جهة،والتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة أخرى،بالإضافة الى توجه العلماء الى دراسة الابتكار كقدرة عقلية نامية،يمكن تربيتها منذ السنوات المبكرة من حياة الفرد،وذلك بالكشف عنها بواسطة اختبارات،وطرق علمية تساعد على انتقاء الأفراد الذين يتميزون بهذه القدرة لتوفير المناخ البيئي والتربوي المناسب لنموها نموا سليما.
ولا شك ان الاهتمام بالمبتكرين والقدرات الابتكارية له ما يبرره،ذلك انه من مقومات الحضارة الإنسانية،إذ ان الحضارات وجدت بالعقول المبتكرة،وبقيت صامدة في وجه الأحداث بما تحتويه من مبتكرات أبنائها مثل، الحضارة اليونانية،والحضارة الصينية وغيرها من الحضارات،مما يعني ان الأمم ترقى وتزدهر بما لديها من عقول نيرة مبتكرة.ومن هنا نجد المربين اليوم يولون اهتماما بالغا بالمبتكرين،ومحاولة البحث عنهم،وتخصيص لهم الأقسام الخاصة بهذا بغرض تربيتهم تربية تتوافق مع قدراتهم الابتكارية(1).
لقد بدأت مجتمعات العالم الثالث تتفطن في السنوات الأخيرة الى أهمية العقول المبتكرة في بناء الحضارة،وتقليص الهوة التي تفصلها عن المجتمعات المتطورة،فخصصت لذلك الأموال الطائلة،وبدأت تغير أنظمتها التربوية وتوجيهها وجهة تتوافق مع أهدافها ومطامحها لتحقيق الغايات المنشودة،إيمانا منها بأهمية عنصر التجديد في الحضارة،وهو ما يعني الإيمان بأهمية التربية في بناء وتجديد الحضارة، حيث ان عنصر التجديد هو من أهم مقوماتها.
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها،ان الحضارة اذا فقدت عنصر التجديد لسبب ما،فإنها تصبح مهددة بالركود،ثم الانحطاط..وإذا كان للإصلاح عـدة أغراض،فان من أهمها،شحذ عبقرية الأمة ودفعها الى الإبداع والتجديد انطلاقا من خدمة التراث الأصيل.فالاكتشاف لمجاهل الكون،هو إثراء للمعرفة وللمنظومة التربوية بحكم موقعها كالعمود الفقري في كيان الأمة الحضاري الشامل والمتكامل،والتي تحتاج الى الإصلاح لتساهم بدورها في عملية التغيير المنشود.فالتربية هي من أهم وسائل الرقي الحضاري والازدهار الثقافي(2).وبذلك يمكن القول ان الحضارة اذا خلت من عنصر التجديد،فإنها تفقد حيويتها ونموها.
وإذا كانت المدرسة في مرحلتيها الأولى والمتوسطة،تمثل حلا بديلا للمشكلة التربوية،فان السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الاتجاه هو، الى أي حـد تساهم المدرسة في تنمية قدرات ومواهب وآراء الأفراد المتعلمين وخاصة فيما يتعلق بالقدرة على التفكير الابتكاري التي تعد من أهم القدرات العقلية التي تجعل الفرد يساهم في عملية البناء الحضاري؟،ذلك باعتبار ان الأمم اليوم ترقى وتزدهر بما لديها من عقول مبتكرة ومجددة.
والحقيقة أن الإجابة على هذا التساؤل المطروح،تتطلب دراسة علمية،تكشف عن مدى العلاقة القائمة بين ما يحصله الفرد المتعلم في هذا النظام التربوي وقدرته الابتكارية،فضلا عن تكوينه في الجوانب الأخرى من شخصيته،ذلك ان شخصية الإنسان تبقى وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة.
مفهوم القدرة العقلية:
لا شك ان مفهوم القدرة العقلية،يعد مصطلحا حديث الظهور(نسبيا)،فقد نشأ هذا المفهوم في ميدان علم النفس التطبيقي(3)،وكان في نهاية القرن التاسع عشر متصلا بالدراسات التجريبية،وفي بداية القرن العشرين،ظهر في فرنسا مرتبطا بقياس الذكاء في أبحاث العالم'الفرد بينه' ثم تطور على يد العالم الانجليزي'تشارلز سبيرمان' الذي رفض مصطلح'الذكاء'لأنه يحمل الكثير من المعاني، وقام باستبداله بمصطلح'العامل العام' الذي يعبر عن الطاقة العقلية العامة التي تهيمن على جميع النشاطات العقلية الأخرى،وذلك حسب مقتضيات نظريته المعروفة بـ'نظرية العاملين'(4).
ويتفق معظم علماء النفس على التعريف الاجرائي للقدرة العقلية،باعتبار انه ما ينتج عن الأداء العقلي،كالقدرة العديدية،والقدرة الابتكارية،حيث يرى العالم'فيري وارن' ومعه'بينجهام' ان القدرة العقلية هي'القوة على أداء الاستجابة،وتشتمل على المهارات الحركية،كما تشتمل على حل المشاكل العقلية'(5).وهو ما يعني التخلص من المفهوم الفلسفي للقدرة العقلية،واعتبار الاستجابة موقفا مشخصا لهذه القدرة من حيث ان الاستجابة لا يقوى عليها الفرد إلا بفضل هذه القوة الواعية.
كما اعتبر العالمان المذكوران،ان الاستجابة لا تخلو من هذه القدرة او القوة التي تتجلى فيها القدرة العقلية.والواقع انه اذا كنا لا نجهل أهمية الوعي في سلوك الفرد الاصطفائي،فإننا لا نستطيع اعتبار ان كل الاستجابات هي استجابات واعية، والسبب في تبني هذه الرؤية يعود الى ان الرجلين(وارن_وبينجهام) كانا ينتميان للمدرسة السلوكية التي بنيت نظريتها النفسية على عاملي المنبه(المثير) والاستجابة.
أما العالم'ثرستون' فيرى ان القدرة العقلية هي صفة يحددها سلوك الفرد،أي بمعنى أنها صفة تتحدد بما يمكن ان يؤديه الفرد او ما يقوم به'(6).فهي(القدرة العقلية) صفة تظهر نتيجة لأداء معين،وبهذا فإنها تمثل سلوكا ظاهريا يمكن ملاحظته وبالتالي قياسه.
وجاء ضمن تعريفات معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية على لسان مؤلفه د. احمد زكي بدوي التعريف التالي:' القدرة العقلية تعني مقدرة الفرد العقلية على إنجاز عمل ما او التكيف في العمل بنجاح..وهي تتحقق بأفعال حسية او ذهنية،وقد تكون فطرية او مكتسبة(عن طريق التعلم)،كما ان هناك قدرات عامة،وهي تمثل عامل مشترك بدرجات متفاوتة مع جميع القدرات الخاصة او مع مجموعة منها'(7).
ويتضح من خلال التعاريف السالفة الذكر للقدرة العقلية،ان هناك اختلافا بين الباحثين في تحديدهم لهذا المصطلح،فبعضهم لا يفرق بينه وبين الاستعداد،والبعض الآخر يربطه بالتصنيف وان هذه الاختلافات ترتبط باتجاه الباحث ومنهجه في البحث.فتعريف العالم فيليب فرنون(القدرة العقلية تعني وجود طائفة من الأداء الذي يرتبط بعضه ارتباطا عاليا،ويتمايز الى حد ما كالطائفة مع غيره من التجمعات الأخرى للأداء،أي ارتباطه بالطوائف الأخرى) يلاحظ انه مرتبط ارتباطا وثيقا بنظريته في البنية العقلية المتمثلة في نظرية'التنظيم الهرمي' التي تقول بالذكاء العام..فالعوامل الطائفية الكبرى تليها العوامل الطائفية الصغرى..الخ.
وتتلاقى التعاريف السابقة،على ان القدرة العقلية ترتبط بالأداء،غير ان البعض منها قد وقع في الخلط بين الاستعداد والقدرة،وهو ما يعني انه لا فرق بين الاستعداد والقدرة إذا كان المقصود بالتدريب عملية (التعليم) بمعناها الواسع،وبالتالي تفاعل الفرد مع بيئته.أما قبل التدريب، فان القدرة العقلية تبقى مجرد استعداد يميل الى الجانب الفطري،وبهذا يظهر الفرق بين القدرة والاستعداد.
ومن جانبه قدم الباحث فؤاد البهي السيد حلا لهذه الإشكالية،حين اعتبر ان الأداء العقلي 'هو القدرة العقلية،والأداء المزاجي..وان الانفعال هو سمة الشخصية،والأداء الحركي هو المهارة اليدوية'
الملكـة العقلية..وكيفية تنميتها:
الملكة العقلية هي قوة عقلية او فكرية او شعورية او إرادية،تعتمد أساسا لتفسير الظواهر العقلية،وكان ينظر لها في السابق على أنها إحدى قوى العقل البشري كالذكاء او الإرادة.وتفسر عن طريق عملها وتفاعلها مع جميع الظواهر العقلية،إلا ان علماء النفس عدلوا عن هذا الرأي(.
وقد بنيت هذه النظرية بالأساس على التأملات الفلسفية منذ أيام ارسطو،بالإضافة الى التفسيرات الفرضية التي كانت تقسم الدماغ تشريحيا ووظيفيا الى أقسام منفصلة يسفر كل منها عن إحدى نواحي النشاط العقلي كملكة التذكر،وملكة الانتباه،وملكة التخيل وغيرها من الملكات الأخرى(9).ونتيجة لهذا المفهوم او التفسير للعقل البشري،ظهرت نظرية'التدريب الشكلي' التي ترى انه من أجل تنمية ملكة من الملكات يجب توافر الشروط الضرورية لتدريبها، وكان هذا التدريب يعتمد على المواد الدراسية،حيث انه من أجل تكوين ملكة التذكر(مثلا) ينبغي اختيار المواد الدراسية التي تنمي هذه الملكة،كالمحفوظات وغيرها من المواد التي تعتمد على الحفظ،وكذلك لتنمية ملكة التفكير لا بد من تدريس مادة الرياضيات،ويجب ان يكون المنهج الدراسي حسب نوعية الملكات المراد تدريبها وتنميتها لدى الفرد المتعلم.أما دوافعه واهتماماته،فم يكن لها اعتبار،ولذلك برز منهج المواد الدراسية المنفصلة في التربية والتعليم انطلاقا من اعتبار ان كل ملكة منفصلة عن الأخرى.وبالتالي كانت المواد الدراسية منفصلة أيضا عن بعضها البعض كالرياضيات،والقراءة، والمحفوظات،والعلوم..الخ.
لقد ارتكزت هذه النظرية على فروض منطقية من حيث التناسق والبناء، التي يمكن حصرها في النقاط التالية:
ان السلوك يتأثر بمجموعة من الملكات العقلية المستقلة عن بعضها البعض،كالتفكير والادراك والتذكر ..الخ.
ان الملكات العقلية يمكن تنميتها من خلال تدريبها على أنواع معينة من التمارين.
ج- ان أثر التدريب الخاص بالملكات العقلية،ينتقل الى كل نواحي الحياة المتعلقة بكل ملكة على حدة.
د- هناك ضرورة لوضع مناهج لتدريب الملكات العقلية في أوساط الطلاب دون النظر لرغباتهم واهتماماتهم،مثل ان دراسة المنطق والرياضيات ينمي القدرة على التفكير،وان دراسة اللغويات ينمي أيضا القدرة على التذكر.أما دراسة العلوم التجريبية،فانه ينمي القدرة على الملاحظة(10).
لكن هذه النظرية واجهت انتقادات كثيرة،حيث أثبتت الأبحاث العلمية التي اجريت في موضوع القدرات العقلية،بطلان هذه النظرية،وخاصة بعد ظهور منهج التحليل العاملي الذي يعتمد على تحليل مصفوفات معاملات الارتباط.وتتمثل الحقائق العلمية التي أثبتت بطلان نظرية الملكات العقلية،والتي أدرجها الباحث فؤاد البهي السيد في كتابه(القدرة العددية) في النقاط التالية:
ـ وجود تداخل بين النشاطات العقلية،وعدم انفصالها عن بعضها-كما تدعي النظرية المشار اليها- حيث انه اذا سلمنا(جدلا) باستقلالية الملكات وانفصالها عن بعضها البعض،فانه ينبغي ان يكون معامل الارتباط بين كل اختبار وآخر يقيسان ملكتين مختلفتين مساويا للصفر..لكن الدراسات الحديثة في القياس العقلي ترى انه لا يوجد معامل ارتباط مساويا للصفر بين اختبارين يقيسان جانبين عقليين مختلفين،بل يكون دائما ارتباطا جزئيا.
ـ ان أي اختبار لقياس ملكة كالتذكر(مثلا) ينبغي ان يكون له صدق مضمون،بحيث لا يقيس إلا ملكة التذكر فقط،لكن الدراسات في القياس العقلي،ترى انه مهما كانت درجة صدق الاختبار عالية،فانه يقيس نواحي متداخلة.
ـ ان الملكات العقلية تعتمد على الاختبارات البسيطة التي تقيس فقط الجانب الذي صمم من أجله،بينما تعتمد عملية قياس القدرة على الاختبارات البسيطة والمعقدة معا،ولهذا فان مفهوم القدرة العقلية هو أعم من مفهوم الملكة العقلية،واذا كانت الملكات العقلية تميل الى تجزئة النشاط العقلي،فان مفهوم القدرة العقلية يميل الى التجميع،وهو بهذا يتفق ويتلاقى مع الإيجاز العلمي.
التحليل العاملي ..والقدرة العقلية:
نشأ التحليل العاملي في الدراسات النفسية على يد العالم الانجليزي 'شارلز سيبرمان' وكثيرا ما يخلط بعض الباحثين السيكولوجيين بين العامل والقدرة،فالعامل-كنتيجة لتحليل مصفوفة معاملات الارتباط-ليس سوى تصنيف إحصائي موجز للمتغيرات والاختبارات التي تدخل في مصفوفة معاملات الارتباط.وهو عبر هذا المعنى،عبارة عن تركيب يصل اليه الباحث نتيجة التحليل العاملي لعلاقات الترابط بين عدد من المتغيرات المتعلقة بإحدى الظواهر(11).والعامل بهذا المعنى، هو أعم من القدرة،لأنه مجرد تركيب للعلاقات الترابطية بين الاختبارات التي تقيس جوانب مختلفة من الظواهر النفسية.
مفهوم القدرة الابتكارية:
هناك تباين واضح في وجهات نظر الباحثين حول موضوع الابتكار،فمنهم من يرى انه قدرة عقلية،ومنهم من ينظر اليه على انه قدرة عامة مكونة من قدرات بسيطة تنتظم فيما بينها لتكون القدرة الابتكارية العامة،والبعض الآخر يعتبره عملية نفسية.
وفي هذا الاطار،يرى العالم'هوبكنز' ان الابتكار هو الذات في استجابتها عندما تستثار بعمق وبصورة فعلية'(12).إلا ان هذا الرأي ،يطرح مشكلة الاستجابة لمؤثرات البيئة الخارجية، لكنه يجعل الذات مركزا للفاعلية،ويهمل تأثير هذه الذات فيما حولها.وبالإضافة الى ذلك،فانه لم يشر الى تكوين القدرة الابتكارية،أي انه لم يحدد ما اذا كانت قدرة عقلية او قدرة نفسية،مما يعبر عن نقص في هذا المفهوم.لكن العالم'جيلفورد' يجد حلا لهذه المشكلة،حيث يرى أنها تنظيمات لعدد من القدرات المتداخلة فيما بينها.
أما 'لالانـد' فيرى ان الابتكار يرتكز على انتاج أشياء جديدة حتى وان كانت عناصرها موجودة من قبل،كابتكار عمل من أعمال الفن،او غيرها من الأعمال التي تتسم بالجدية.أما الاختراع فهو يعد من الجوانب الابتكارية غير انه يعتمد على الانتاج المركب وهو ادماج جديد لوسائل من أجل الوصول الى هدف معين،والاختراع هو عكس الاكتشاف الذي يطلق عليه اكتساب معرفة جديدة لأشياء كان لها وجود سابق،كاكتشاف 'كريستوفر كولومبس' لأمريكا(مثلا)،وهذا الاكتشاف لم ينتج أمريكا،وانما أكتشفها فقط.وباختصار فان العالم'لالاند' أشار الى ان الإبداع او الابتكار'هو إنتاج شيء ما على ان يكون شيئاً جديدا في صياغته،وان كانت عناصره موجودة من قبل كإبداع عمل من أعمال الفن او التخيل الإبداعي..'
أما الاختراع الذي هو أحد جوانب الإبداع،'فهو إنتاج مركب جديد من الأفكار او هو بوجه خاص إدماج لوسائل من أجل غاية معينة..والاختراع بهذا المفهوم هو عكس الاكتشاف الذي لا يطلق إلا علا اكتساب معرفة جديدة لأشياء كان لها وجود من قبل سواء كان هذا الوجود ماديا او كان نتيجة لمعلومات سبق وجودها..'(13).
ويعتبر'بول تورانس' ان الابتكار هو'عملية يصبح فيها الفرد أكثر حساسية للمشكلات وأوجه النقص،وفجوات المعرفة الناقصة وعدم الانسجام وغير ذلك،فيحدد فيها الصعوبة،ويبحث عن الحلول،ثم يقوم بوضع تخمينات،وصياغة الفروض من النقائص،ثم يختبر هذه الفروض ويعيد اختبارها،ثم يقدم نتائجه في نهاية الأمر'(14).
مكونات القدرة:
تتكون القدرة العقلية من المكونات التالية:
الطلاقـة: وهي تعني-كما عرفها جليفورد- صدور الأفكار بسهولة على شكل سيل من الأفكار التي تصدر بسهولة سواء كانت طلاقة فكرية او لفظية او غيرها'وهي أيضا-كما يرى الباحث حلمي المليجي-'سيل غير عادي من الأفكار المترابطة يبدو فيها وكأن العقل المبتكر كما لو كان يطلق طلقات من الأفكار الجديدة..'(15).
وأشار المليجي في سياق توضيحه لمفهوم الطلاقة،الى أنماطها الثلاثة وهي :الطلاقة الفكرية ،وتعني وحدات فكرية،والطلاقة الارتباطية،وهي سرعة توليد معان تعبر عن علاقات،واخيرا،الطلاقة التعبيرية،وتعني حديث متصل.
ويرى العالم'جيلفورد' الذي قام بدراسة تجريبية حول عامل الطلاقة،انه يتكون من العوامل التالية:
طلاقة الكلمات،وتعنى إدماج حروف في كلمات بسرعة.
طلاقة التداعي،وتعني إنتاج كلمات محددة وذات معنى بسرعة.
طلاقة الأفكار،وتعني سرعة إيراد أفكار في أخذ المواقف.
الطلاقة التعبيرية،وتعني على التعبير عن الأفكار.
ويرى جليفورد' الذي قام باكتشاف العوامل الأربعة السالفة الذكر في معمله باستخدام التحليل العاملي، ان تمييز عامل الطلاقة التعبيرية عن عامل طلاقة الأفكار،يدل على ان القدرة على إيجاد أفكار تختلف عن القدرة على صياغة هذه الأفكار في كلمات(16).مقدما مفهومه للطلاقة بالقول:'..ان الأطفال الذين ينالون علامات عليا في التفكير المبدع،كانوا يعطون عددا أكبر من الأفكار،وينتجون المزيد من الأفكار الأصيلة،كما كانوا يعطون المزيد من التفسيرات عن عمل الألعاب العلمية غير المألوفة..'(17).
المرونــة:ويقصد بذلك،تدفق المعلومات بسهولة ويسر،وتتكون من عاملين هما:
ـ المرونة التلقائية،وتعني الانتقال السريع من استجابة الى أخرى.
ـ المرونة التكيفية،وتعني التغيير في الحلول الممكنة،كإعطاء عناوين مختلفة لقصة قصيرة واحدة(18).
ويرى 'جليفورد' ان المرونة تمثل القدرة على سرعة إنتاج أفكار تنتمي الى أنواع مختلفة من الأفكار التي ترتبط بموقف معين.وبناءا على هذا الرأي لمفهوم المرونة،يتضح ،أنها تعتمد أساسا على سرعة انتاج أفكار مختلفة مع وحدة الموقف،وهو ما يعني إدارة التفكير في اتجاهات مختلفة ،يظهر خلالها فض موقف معين،وبمعنى أدق تغيير الشخص لوجهته الذهنية لعلاج قضية معينة(19).
ج- الأصالـة: يقصد بالأصالة -حسب تفسير الباحث سيد خيرالله-'القدرة على إنتاج استجابات أصيلة، أي بمعنى قليلة التكرار بالمعنى الإحصائي داخل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد،أي انه كلما تقلصت درجة شيوع الفكرة،زادت درجة أصالتها..'(20).
ويلاحظ في هذا الصدد ان هذا التعريف للأصالة،يحددها بدرجة الشيوع والندرة(أي القلة) بالإضافة الى ذلك يحددها بانتماء الفرد المنتج للاستجابات.
ومن جانبه يرى الباحث محمود البسيوني في كتابه(العملية الابتكارية) ان الأصالة تمثل إحدى الأسس الهامة في العملية الابتكارية حيث ان الأصالة ضد التقليد وهي تعني ان الأفكار تنبعث من الشخص وتنتمي إليه،وتعبر عن طابعه وعن شخصيته..فالشخص الذي لديه أصالة يفكر بنفسه..'(21).
د- التوسيع: ويعني تعديل الاستجابة من خلال إضافة استجابات أخرى تؤدي،كان يؤخذ فكرة بسيطة يتم توسيعها وجعلها جذابة أكثر مما يعني إضافة تفاصيل لفكرة معينة بحيث تتناسب هذه التفاصيل مع الفكرة الأساسية.وفي رأي'جيلفورد' أنها الإنتاج الافتراقي للتضمينات،حيث ان إيجاد التفاصيل لاكمال خطة او بناء موضوعات معقدة ذات معنى من خطوط،يعد إنتاجا لتضمينات يوحي فيها الشيء بشيء آخر..
وقد أشار المليجي الى قدرة التوسيع هذه باعتبارها نوعا من البناء الذي يقوم على معلومات معطات،وقال'ان المقصود بالإكمال هو البناء على أساس من المعلومات المعطات لتكملة بنائها من نواحيه المختلفة حتى يغدو أكثر تفصيلا او العمل على امتداده في اتجاهات جديدة..'(22).
مفهوم التحصيل الدراسي:
التحصيل الدراسي يتمثل في المعرفة التي يحصل عليها الفرد من خلال برنامج او منهج مدرسي قصد تكيفه مع الوسط والعمل المدرسي(23).ويقتصر هذا المفهوم على ما يحصل عليه الفرد المتعلم من معلومات وفق برنامج معد يهدف الى جعل المتعلم أكثر تكيفا مع الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه،بالإضافة الى إعداده للتكيف مع الوسط المدرسي بصورة عامة.
ويرى'جابلن' ان التحصيل 'هو مستوى محدد من الأداء او الكفاءة في العمل الدراسي،كما يقيم من قبل المعلمين او عن طريق الاختبارات المقننة او كليهما معا'(24).ويركز هذا المفهوم للتحصيل الدراسي على جانبين،الأول على مستوى الأداء او الكفاءة،والثاني، على طريقة التقييم، التي يقوم بها المعلم،وهي عادة عملية غير مقننة،وتخضع للمشكلة الذاتية،أو عن طريق اختبارات مقننة موضوعية.
ويحدد الباحث'سيد خيرالله' في مؤلفه(بحوث نفسية وتربوية) مفهوم التحصيل الدراسي تحديدا إجرائيا حيث يرى ان التحصيل' يعني التحصيل الدراسي،كما يقاس بالاختبارات التحصيلية المعمول بها بالمدارس في امتحانات شهادة المرحلة الأولى(المرحلة الابتدائية) في نهاية العام الدراسي،وهو ما يعبر عنه المجموع العام لدرجات التلميذ في جميع المواد الدراسية..'(25).ويلاحظ ان هذا المفهوم يربط بين التحصيل والاختبارات التي تستعمل لقياس المحصلة النهائية لمجموعة المعارف والمهارات والتي تتمثل في المجموع العام لدرجات التلميذ في نهاية السنة الدراسية.
وفي السياق ذاته،يرى الباحث'ابراهيم عبد المحسن الكناني' ان التحصيل الدراسي هو'كل أداء يقوم به الطالب في الموضوعات المدرسية المختلفة،والذي يمكن إخضاعه للقياس عن طريق درجات اختبار او تقديرات المدرسين او كليهما معا..'(26).ويبدو ان هذا التعريف أكثر إجرائية من التعريفات السالفة الذكر،بيد انه لم يحدد نوعية الاختبارات من حيث أنها مقننة او غير مقننة،ناهيك ان اشتراطه إخضاع أنماط الأداء للقياس بصفة عامة،يتطلب منه تحديدا إجرائيا لها(الأداء الحركي،والفكري،والاسترجاعي ..الخ).
خلاصــة:
نستنتج مما سبق،ان القدرة على التفكير الابتكاري،هي قدرة عامة وليست وحدة أولية لا تتجزأ،بل تتكون من قدرات فرعية تعمل جميعها على تكوين القدرة الابتكارية العامة،حتى وان اختلفت المفاهيم لهذه المكونات الأساسية للقدرة على التفكير الابتكاري،فإنها لا تخرج عن الإطار العام الذي يتمثل في تنوع العوامل التي يظهر فيها التفكير الابتكاري،عندما يخرج الى حيز الوجود سواء كان فكرة أو كان عملا مجسدا في إنتاج يبدو لصاحبه او للآخرين انه جديدا.
كما ان المكونات الأساسية التي تتكون منها القدرة الابتكارية العامة(الطلاقة،المرونة،الأصالة،التوسيع) تبقى تعمل متكاملة ومتداخلة في كل عمل ابتكاري،حيث تظهر في كل إنتاج ابتكاري جديد مهما كان نوعه،وهذا يعني انه اذا ظهرت واحدة من هذه المكونات كان ذلك دليلا على ظهور بقية المكونات،ولكن بدرجات متفاوتة،كما تتحدد الفروق من خلال درجة الشيوع الإحصائي،فالزيادة في عدد الكلمات تعني'الطلاقة'،وكثرة الاستجابات وتنوعها تعني'المرونة'،والجدة والطرافة والندرة تعني'الأصالة'،أما الإضافة التفصيلية للموضوع او الفكرة،فتعني'التوسيع' وهكذا..
وفيما يتعلق بالتحصيل الدراسي،فان مفاهيمه متعددة،وان معظم الباحثين يلجأوون الى التعاريف الإجرائية التي تتوافق مع متغيرات بحوثهم،ولذلك فانه من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف واحد يتفق عليه جميع الباحثين،حيث ان بعضهم يلجأ الى الاختبارات المقننة،ويلجا آخرون الى اختبارات وتقديرات المدرسين من جهة،والاختبارات المقننة من جهة أخرى.وأما من حيث الشمولية،فان بعض التعاريف تقتصر على التحصيل الدراسي في مرحلة معينة من مراحل الدراسة،والبعض الآخر،يشمل جميع المراحل الدراسية،ولهذا السبب قدمنا تعريفا إجرائيا يتفق مع متغيرات البحث الذي نقوم به حتى نستطيع دراسة العلاقات القائمة بين التحصيل العلمي،(كما تقيسه اختبارات وتقديرات المعلمين) والقدرة الابتكارية العامة ومكوناتها الأساسية