في بلد متقدم تعتمد الإدارة فيه على الوضوح في الإجراءات ، والأنظمة والقرارات ، وتصبح الثقة هي رمز العمل ، وتختفي التعقيدات الإجرائية ، يصبح من معالم ذلك النظام ، أو النمط الإداري السمات الآتية:
1) الاعتماد على السكرتير أو المساعد في تصريف كثير من الأمور الإجرائية اليومية ، فيتيح هذا الأسلوب للمدير التفرغ ، وتخصيص الجزء الأكبر من وقته للتخطيط والتفكير ، وعقد اللقاءات ، وتحقيق مكاسب لإدارته.
2) تختفي المركزية في اتخاذ القرارات ، وتتضاءل الفروق والحواجز بين الرؤساء والمرؤوسين ، وتتوزع الصلاحيات والاختصاصات ، ويحس كل عضو في المنشأة بأنه يسهم في القيادة ، وفي اتخاذ القرارات، فيدفعه ذلك إلى مزيد من الإخلاص في عمله ، والولاء له، والتفاني في خدمة أهداف المنشأة التي يعمل فيها.
3) يسود الوضوح في خطوات العمل وإجراءاته ، ويعمم التنظيم في حركة العمل اليومي، وتغدو الأمور كأنها تسير نفسها، فتقل الأسئلة والاستفسارات حول جزئيات العمل ، لأن كل موظف في المنشأة يعرف واجباته بوضوح.
4) تكون الأنظمة والقوانين واضحة وحديثة ولا تحتمل التأويل،والتفسير، وليس هناك استثناءات من الأنظمة أو تحايل عليها، أو تفسيرها لخدمة المصالح الخاصة.
5) تتصف بيئة العمل بالحركة الدائبة : لقاءات ثنائية وجماعية، وانتقال بين المكاتب لنقل الإجراءات أو تبليغها.
6) تختفي المظاهر المصطنعة في الشخصيات والمواقف، وتظهر كل الأمور على حقيقتها، ويذهب الرئيس إلى مرؤوسه، ويجلس بقربه ، ويحاوره في مكتبه ، ولا يتردد في نقل الأوراق بين الإدارات والمكاتب ، ولا يأنف من عمل القهوة لنفسه ، ولضيوفه أحياناً.
7) يقل الاعتماد على استخدام الورق في الإجراءات حيث تبلغ كثير من التعليمات والإجراءات بالهاتف وشفوياً ، اعتماداً على الثقة ، ويتم الاعتماد كثيراً على النماذج المعدة والمطبوعة سلفاً لكثير من الإجراءات، ويسهم في جعل الأمور واضحة وغير خاضعة للاجتهاد.
وهكذا نجد أن كل الأمور في مثل هذه البيئة الإدارية الصحية مهيأة وميسرة لمصلحة العمل ، وتعمل على تركيز جهود العاملين في اتجاه تحقيق أهداف المنشأة ، فليست هناك تعقيدات إدارية تأخذ جزءاً من وقت العاملين ، وتشغل أذهانهم عن الإنتاج، وليس هناك حواجز كبيرة بين الرؤساء والمرؤوسين تجعل المرؤوسين يترددون في طلب التوجيه أو مكاشفة رؤسائهم بما لديهم من أفكار ومقترحات وملاحظات يرون أنها تخدم مصلحة العمل، بالنسبة للأنظمة وإجراءات العمل فهي واضحة، لا تحتمل الاستفسارات من المرؤوسين، أو الاختلاف في التأويل والتطبيق ، أو تسخيرها لخدمة المصالح الشخصية والمنافع الذاتية.
ماذا في البلدان المتخلفة إدارياً:
إذا أمعنا النظر في أنماط وسلوكيات المديرين في إحدى البلدان النامية، ولو راقبنا أحد المديرين في تلك البلدان وهو يؤدي عمله، بدءاً من الطريقة التي يدخل فيها إلى مكتبه إلى أن يخرج منه، لبرزت لنا أمور كثيرة، تبين أول ما تبين الفارق بين الأسلوب الإداري في ذلك البلد، وبينه في بلد آخر متقدم، كما يتضح لنا كم هي الإدارة مظلومة كفن ، وموهبة ، ومبدأ ، عندما نجدها تُغتال في عصر التقدم الفكري والعلمي والتقني ، ستظهر لنا أمور غريبة تلصق بالإدارة وهي بريئة منها ، إذ يصبح من سمات الإدارة البارزة في ذلك البلد:
1. التمثيل الإداري ، والمقصود به أن يحاول المدير أن يظهر في صورة غير الصورة الحقيقية لشخصيته، فيتظاهر بالتعالي والكبرياء والغطرسة على المرؤوسين ، وبفهم الأمور بطريقة أفضل منهم ، ويتلذذ بإصدار الأوامر والتعليمات ، ولا يتردد في توبيخ المرؤوسين ولومهم، ولو كان ذلك على مشهد من زملائهم.
2. ويدخل في نطاق ذلك الاهتمام بالمظاهر والأثاث في المكتب، إذ غالباً ما يلجأ المدير، أو المسئول إلى تغيير شكل المكتب ، ونوعية الأثاث بين فترة وأخرى، ويتدخل في اختيار الألوان وقطع الأثاث، وحتى في نوعية الأقفال، والغرف الملحقة، التي يحلو له أن ينزوي فيها بعيداً عن أصحاب المصالح والمراجعين، والملاحظ أن هناك ارتباطاً بين مدى تمتع المسئول بالمقدرة الإدارية واهتمامه بمثل هذه الأمور، وتولد الرغبات المظهرية لديه، وغالباَ ما يعمد المسئول الضعيف إلى اللجوء إلى مثل هذه المظاهر وفي مقدمتها كما ذكرنا هيبة المكاتب لإخفاء بعض جوانب الضعف في شخصيته الإدارية.
3. إكثار المدير من الاجتماعات لإخفاء عجزه عن حل مشكلات العمل ، ويحاول بهذه الاجتماعات الإيحاء بأنه مدير يؤمن بالمشاركة واتخاذ قرارات جماعية، وهو في واقع الأمر، وفي الغالب، يريد استعراض ما يملكه من مهارات كلامية، ويرضي غروره بأن يرى الجميع يستمعون ويصغون إليه، ولا يستطيع أحد مقاطعته، ومثل هذا المدير لا يسمح لأحد بالكلام إلا عندما يأذن له، ولا يرضى أن يعارض رأيه أحد، وهو يحاول توجيه الاجتماع والكلام بحيث يؤمن الجميع على ما يقول، وهو بهذا يخادع مرؤوسيه، ويخدعهم، ويجعلهم يخفون عنه أكثر مما يظهرون له، لأنه بأسلوبه يستميلهم إلى تأييد كل ما يصدر عنه، ويوحي لهم بالرضا عمن يؤمن على ما يقول، فيدفع بهذا المخلصين منهم إلى التزام الصمت، والإعراض عن المشاركة، والبوح بآرائهم ومقترحاتهم، خوفاً من إغضاب المدير، فينعكس هذا سلباً على نفسيات الموظفين، وعلى أعمال الإدارة، ونتائج هذه الأعمال.
4. تكون الأنظمة والإجراءات والأهداف عادة غير واضحة ، فتكثر الاستفسارات والأسئلة وتتباين الإجابات، ويكثر التأويل، ويختلف التطبيق بين وقت وآخر، وعادة يطوع الغموض في الأنظمة والإجراءات، ويفسر ويكيف لمصلحة التوجه الذي يراد للإجراء أن يسير فيه، أو الذي ينسجم مع ما يريده المدير، وكثيراً ما يصاب العاملون في مثل هذه الإدارة بنوع من الإحباط، ويعانون من كتمان ما يشعرون به من امتعاظ، ولا يستطيعون التعبير عنه خوفاً من فقد وظائفهم، أو وصفهم بالمشاغبين ومثيري المشكلات على الإدارة، كما أن الأهداف التي يعملون من أجلها غير واضحة لهم، ولا يحسون برابطة الانتماء.
5. يُغرق المدير نفسه في العمل الورقي ، لأن كل التعليمات لابد أن تصدر منه ، ولابد أن يوضح كل الإجراءات والخطوات التي ينبغي تطبيقها، ويتخوف المرؤوسون عادة من اتخاذ أي إجراء دون توقيع وتأشيرة المدير لكي يسلموا من التوبيخ واللوم وربما العقاب، ويجد المدير نفسه غارقاً بين أكوام من الورق والتقارير والخطابات، ومشغولاً بها عن التخطيط، والتفكير في التطوير، وتحديث وتوضيح الإجراءات.
6. غالباً ما يقرب المدير حوله ضعاف الشخصية، ومحدود القدرات والمواهب، من مساعدين ومستشارين، لأنه يجد أن ذلك أسهل لتقبل توجيهاته وتعليماته، وتنفيذها دون إبداء رأي أو معارضة، وكلما قلت ثقة هذا المدير في نفسه برزت هذه الظاهرة أكثر في محيط إدارته ومن حوله، لأنه يعرف أن تقريب الأقوياء والأذكياء حوله وتبنيهم ربما يثير عليه المشكلات ويحدث بعض الصراعات في الرأي بينه وبينهم ، لأنهم سوف يكون لهم رأي مستقل في كثير من الأمور، وسيلفت ذلك النظر إليهم أكثر، ويجعلهم يبرزون أكثر منه في محيط المنشأة وربما خارجها ، وهذا يجعله يتخوف من أن يستحوذوا على اهتمام الرأي، والمتعاملين مع المنشأة ، ولذلك يفضل أن يبقى هو في الصورة دائماً دون غيره، وأن يكون من حوله تابعين له في تنفيذ سياسته وتوجهاته وآرائه، دون معارضة أو إبداء رأي يختلف مع ما يراه هو.
7. تتصف القرارات بالتخبط والفردية والتعارض، إذ ليس هناك منهج واضح في دراسة المشكلات وإشراك الآخرين والاستفادة من تجاربهم ، أو استعراض العوامل المؤثرة فيها، والمتأثرة بها، وغالباً ما تتخذ القرارات بسرعة وبدون تروي، ويفاجأ العاملون بالقرارات تصدر مباشرة من مكتب المدير، دون تنسيق مسبق أو معرفة سابقة بها ، وفي بعض الأحيان لا يجد المدير في نفسه الشجاعة لإعلام العاملين بهذه القرارات، ذات التأثير المباشر عليهم، مكتفياً بتوقيعها وترك تبليغها لسكرتيره أو مدير مكتبه، دون أن يقبل المناقشة فيها بعد إصدارها ومعرفة ردود فعل العاملين أو ملاحظاتهم حولها.
8. ينظر المدير في هذه البيئة الإدارية إلى العالمين نظرة دونية يشوبها الكثير من التعالي والخيلاء والكبرياء وربما الغرور، ويحس إحساساً داخليا يحاول إخفاءه ويظهر عليه أحياناً أنهم وجدوا لخدمته وتأييده وتهيئة المناخ له للعمل في راحة تامة دون مشكلات معطياً لنفسه كل الحق في محاسبتهم على التقصير والغياب والتأخر عن العمل متناسياً نفسه وغائباً عنه أنه هو القائد وهو القدوة.
9. وغالباً ما يجند هذا المدير بعض العاملين ويسخرهم لخدمته الشخصية بعيداً عن واجبات العمل التي وظفوا من أجلها فهناك من يحمل حقيبته ويؤدي متطلباته الشخصية ويسافر معه للقيام بخدمته الذاتية وكل هذا من أجل إرضاء غروره الشخصي، أو ما يشعر به من نقص، ولتكملة مظهره الشخصي الناقص أمام الغير، وإضفاء هالة من الاحترام والتقدير لنفسه، ويصل الأمر إلى أبعد من ذلك، ففي بعض البلدان يستغل المدير نفوذه بتوظيف خدم منزله أو من يتولون خدمته الشخصية على حساب العمل.
10. يعمل المدير على تركيز معارفه وأقاربه والمحسوبين عليه في وظائف قريبة منه ، لكي يستمد منهم قوته ونفوذه ن ويسخرهم لتنفيذ ما يصدره من أوامر وقرارات ، وتبني السياسات التي يؤمن بها ، وشيئاً يصبح لديه نوع من الإحساس بالعظمة ، وأنه أصبح مطاعاً في كل شيء ، فيسارع أصحاب المصالح إلى التقرب منه ، ودعوته لحضور مناسباتهم ، وبناء علاقات قوية معه ، مبنية على قضاء مصالح متبادلة ، ويبدأ في استخدام نفوذه لتحقيق مكاسب ويبدأ في استخدام نفوذه لتحقيق مكاسب ومصالح شخصية ومادية ، وغالباً ما يبدأ هذا التوجه لديه بشيء من الحيطة والحذر والكتمان ، ثم ما يلبث أن يصبح سمة ملازمة له ، ويصبح العمل بالنسبة له أمراً ثانوياً ، ووسيلة للهيمنة واستخدام النفوذ ، وقضاء المصالح الخاصة.
من موقع النخبة
من كتاب "جوهر الإدارة" للأستاذ محمد الشريف